في
أعماق الزنازين المظلمة، حيث تقيد الأجساد وتضيق الأنفاس، قد يظن المرء أن الإبداع
والإنتاج يتلاشيان، وأن بصيص الأمل يخبو. لكن، شاءت إرادة الله أن تنبت من قلب هذا
الظلام نورًا ساطعًا، تجسد في عمل قرآني فريد، هو "مصحف الحفاظ". قصة
هذا المصحف ليست مجرد حكاية كتاب، بل هي قصة صبر وعزيمة وإيمان راسخ، سطّرها
الأسير المقدسيّ رمضان مشاهرة على مدار عشر سنوات من الجهد المتواصل.
لم
تكن رحلة مشاهرة في إنجاز هذا العمل يسيرة قط. لقد استعان بمئات المجلدات
والمراجع، قديمها وحديثها، ليشق طريقه نحو هدفه النبيل، متحديًا كل الصعوبات
والمعوقات التي لا تحصى في مثل هذه الظروف. لكن إصراره كان أقوى من قيود السجان،
وشغفه بكتاب الله أعظم من وحشة العزلة. وها هو النور يخرج أخيرًا، مصحفًا مباركًا
زكّاه قامات شامخة في عالم القرآن.
تتصدر
قائمة المزكين فضيلة الدكتور أحمد المعصراوي، شيخ عموم المقارئ المصرية، وهو من
أشهر القامات القرآنية في العالم الإسلامي. والدكتور نواف التكروري، رئيس هيئة
علماء فلسطين، الذي يمثل صوت الحق والعلم في أرض الرباط. والدكتور عكرمة صبري،
خطيب المسجد الأقصى المبارك ،والدكتور عبد الرحمن جمل، من كبار القراء في قطاع غزة
الصابر، والدكتور أحمد نوفل، العلامة المفسر القدير في عصرنا الحاضر، وغيرهم من
العلماء الأجلاء الذين أجمعوا على قيمة هذا الإنجاز.
هذا
العمل المبارك، يمثل بحق إضافة نوعية وثراءً حقيقيًا للمكتبة القرآنية. إنه ليس
مجرد مصحف آخر بين المصاحف، بل هو مشروع يحمل في طياته رؤية واضحة وهدفًا ساميًا:
تيسير حفظ كتاب الله العزيز وتمكين آياته في الصدور، خاصة فيما يتعلق بالآيات
المتشابهة لفظًا وخواتم الآيات، التي غالبًا ما تشكل تحديًا أمام الحفاظ والقراء
على حد سواء.
إن
عظمة الخالق سبحانه وتعالى تتجلى في كل حرف من آيات الذكر الحكيم، وتتراءى كلماته
كأنها أنوارٌ تهدي الباحثين عن الحق. لكن، في رحلة الحفظ والتدبر، قد تعترض طريق
السالك بعض العقبات، خاصة عند مواجهة الآيات المتشابهة لفظًا. هذه الآيات، على
الرغم من أنها تحمل نفس المعنى في الغالب، إلا أن اختلافها الطفيف في الألفاظ قد
يشكل تحديًا للذاكرة ويؤدي إلى الخلط بين المواضع.
من
هنا، بزغ نورٌ جديدٌ في سماء المصاحف، ليضيء دروب الحفاظ والقراء والباحثين،
وليذلل لهم صعاب المتشابهات، وهو هذا المصحف الفريد، الذي يهدف إلى تحقيق
جملة من الأهداف النبيلة التي تصب جميعها في خدمة كتاب الله:
وقد
اعتمد هذا المصحف الفريد في تحقيق هذه الأهداف السامية على منهجين أساسيين
ومتكاملين، يخدم كل منهما الآخر ويعززه:
الأول: الربط بالضوابط: يعتمد هذا
المنهج على ربط الموضع المتشابه في السورة بمكانه الذي ورد فيه برابط يتبادر
إلى الذهن بشكل مباشر وسريع عند قراءة الموضع المتشابه غيبًا. وقد اعتمد المصحف
لتحقيق هذه الغاية ستة ضوابط رئيسية تم اختيارها بعناية فائقة لتسهيل هذا الربط
الذهني:
ولم
يكتفِ المصحف بهذه الضوابط اللفظية والذهنية، بل ابتكر نظامًا فريدًا من الألوان
الخاصة لتلوين بعض أحرف القرآن الكريم للدلالة على كل نوع من هذه الضوابط الستة.
هذا الاستخدام المتقن للألوان يزيد بشكل كبير من التسهيل والربط والتفريق بين
الآيات المتشابهة على المستوى البصري، مما يعزز عملية الحفظ والتذكر.
الثاني: الربط بالتوجيه: يعتمد هذا
المنهج العميق على ربط الموضع المتشابه في السورة بمكانه الذي ورد فيه بناءً على
المعنى العام للآية والسياق الذي وردت فيه. وهذا المنهج يعتبر الأكثر أهمية لأنه
لا يقتصر على تسهيل الحفظ فحسب، بل يؤدي إلى فهم دقيق للقرآن الكريم وتدبر عميق
لآياته، مما يرسخ الحفظ في القلب والعقل على حد سواء.
وقد تم في هذا المصحف تظليل خلفية الآيات المتشابهة بألوان مختلفة للدلالة على نوع التشابه القائم بينها. هذه الألوان تشير إلى ما إذا كان التشابه ناتجًا عن تبديل بين الألفاظ، أو تقديم قابله تأخير، أو ذكر قابله حذف ، أو جمع قابله إفراد، أو تذكير قابله تأنيث ، أو إظهار قابله إضمار ، أو تعريف قابله تنكير . هذا النظام اللوني الدقيق يساعد القارئ على فهم طبيعة الاختلاف بين الآيات المتشابهة بشكل بصري مباشر.
يتميز
مصحف الحفاظ بعدة خصائص فريدة تجعله متميزًا عن غيره من المصاحف، ومن أهم هذه
الخصائص:
لم
يخلُ طريق إنجاز هذا المصحف الفريد من بعض المعوقات والتحديات الكبيرة، والتي تزيد
من قيمة هذا الإنجاز:
الطموحات
المستقبلية لهذا العمل المبارك لا تتوقف عند هذا الحد، بل يطمح القائمون على مصحف
الحفاظ إلى تحقيق المزيد من الإنجازات التي تخدم كتاب الله وطلابه، ومن أهمها:
ختامًا،
يُعد "مصحف الحفاظ" بحق علامة فارقة ومنارة مضيئة في مجال خدمة كتاب
الله تعالى. إنه نور ساطع يضيء دروب الحفاظ والقراء والباحثين ، ويسهل عليهم
رحلتهم المباركة مع كلام الله. إن الجهد المضني الذي بذل في إنجاز هذا العمل
المبارك، والتزكيات القيمة التي حظي بها من كبار العلماء، ليشهدان على قيمته
وأهميته الكبيرة. ندعو الله عز وجل أن يبارك في هذا العمل النبيل، وأن ينفع به
المسلمين في كل مكان، وأن يجعله صدقة جارية لصاحبه المجاهد والقائمين عليه، وأن
يجزيهم خير الجزاء في الدنيا والآخرة.